سورة يس - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


{سُبْحَانَ الذي خَلَق الازواج كُلَّهَا} استئنافٌ مسوقٌ لتنزيهه تعالى عمّا فعلوه من ترك شكره على آلائه المذكورة واستعظام ما ذُكر في حيِّزِ الصِّلةِ من بدائعِ آثارِ قُدرتِه وأسرارِ حكمتِه وروائعِ نعمائِه الموجبةِ للشُّكرِ وتخصيصِ العبادةِ به والتَّعجيب من إخلالِهم بذلك والحالةُ هذه وسبحانَ علمٌ للتَّسبيحِ الذي هو التَّبعيدُ عن السُّوءِ اعتقاداً وقولاً أي اعتقادَ البُعد عنه والحكم به من سَبَح في الأرضِ والماءِ إذا أبعد فيهما وأمعنَ ومنه فرسٌ سبوحٌ أي واسعُ الجري. وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يذكر ناصبُه أي أسبِّح سبحانَه أي أنزهه عمَّا لا يليقُ به عقْداً وعملاً تنزيهاً خاصَّا به حقيقاً بشأنِه وفيه مبالغةٌ من جهةِ الاشتقاقِ من السَّبحِ ومن جهة النَّقلِ إلى التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ عن المصدرِ الدَّالِ على الجنسِ إلى الاسمِ الموضوع له خاصَّة لا سيِّما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مقامَ المصدرِ مع الفعلِ وقيل: هو مصدرٌ كغفرانِ أُريد به التَّنزه التَّام والتَّباعد الكُلِّيُ عن السُّوءِ ففيه مبالغةٌ من جهةِ إسنادِ التَّنزه إلى الذَّاتِ المُقدَّسةِ فالمعنى تنزه بذاتِه عن كلِّ ما لا يليقُ به تنزُّهاً خاصَّا به فالجملةُ على هذا إخبارٌ من الله تعالى بتنزهِه وبراءتِه عن كلَّ ما لا يليقُ به مَّما فعلُوه وما تركُوه وعلى الأوَّلِ حكم منه عزَّ وجلَّ بذلك وتلقين للمؤمنين أنْ يفعلُوه ويعتقدُوا مضمونَه ولا يُخلُّوا به ولا يغفلُوا عنه. والمرادُ بالأزواجِ الأصنافُ والأنواعُ {مِمَّا تُنبِتُ الارض} بيانٌ لها والمرادُ به كلُّ ما ينبتُ فيها من الأشياءِ المذكورةِ وغيرها {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} أي خلقَ الأزواجَ من أنفسِهم أي الذَّكرَ والأُنثى {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} أي والأزواجَ مما لم يُطلعهم الله تعالى على خُصوصيَّاتهِ لعدمِ قُدرتِهم على الاحاطةِ بها ولمَّا لم يتعلَّق بذلك شيءٌ من مصالحِهم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ وإنما أطلعَهم على ذلك بطريقِ الإجمالِ على منهاجِ قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} لمَا نيطَ به وقوفُهم على عظمِ قدرتِه وسعةِ مُلكهِ وسلطانِه.
{وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل} جملة من خبرٍ مقَّدمٍ ومبتدأٍ مؤخَّرٍ كما مرَّ وقوله تعالى {نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} جملةٌ مبيِّنة لكيفيَّةِ كونِه آيةً أي نُزيله ونكشفُه عن مكانِه مستعارٌ من السَّلخِ وهو إزالةُ ما بين الحيوانِ وجلدِه من الاتِّصالِ. والأغلبُ في الاستعمالِ تعليقُه بالجلدِ يقال سلختُ الإهابَ من الشَّاةِ وقد يُعكس ومنه الشَّاةُ المسلوخةُ {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} أي داخلونَ في الظَّلامِ مفاجأةً وفيه رمزٌ إلى أنَّ الأصلَ هو الظَّلامُ والنُّورُ عارضٌ. {والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} لحدَ مُعين ينتهي إليهِ دورُها فشبه بمستقرِّ المسافرِ إذ قطع مسيرَه أو لكبد السَّماءِ فإنَّ حركتَها فيه توجد أبطأ بحيثُ يظنُّ أنَّ لها هناك وقفةً قال:
والشَّمسُ حَيْرى لها بالجوِّ تدويمُ ***
أو لا استقرارَ لها على نهجٍ مخصوصٍ أو لمنتهى مقدَّر لكلِّ يومٍ من المشارقِ والمغاربِ فإنَّ لها في دورِها ثلاثمائة وستِّين مشرقاً ومغرباً تطلع كلَّ يومٍ من مطلعِ وتغربُ من مغربٍ ثمَّ لا تعودُ إليهما إلى العامِ القابلِ أو لمنقطعِ جريها عند خرابِ العالمِ. وقرئ: {إلى مستقرَ لها}. وقرئ: {لا مستقرَّ لها} أي: لا سكونَ لها فإنَّها متحرِّكةٌ دائماً وقرئ: {لا مستقرَّ لها} على أنَّ لا بمعنى ليسَ.
{ذلك} إشارةٌ إلى جريها وما فيهِ من معنى البُعد مع قُرب العهدِ بالمُشارِ إليه للإيذانِ بعلوِّ رُتبتهِ وبُعد منزلتِه أي ذلك الجريُ البديعُ المنطوي على الحِكَمِ الرَّائعةِ التي تحارُ في فهمها العقولُ والأفهامُ {تَقْدِيرُ العزيز} الغالبِ بقُدرته علَى كلِّ مقدورٍ {العليم} المحيطِ علمُه بكلِّ معلومٍ.


{والقمر قدرناه} بالنَّصبِ بإضمار فعلٍ يفسِّره الظَّاهرُ. وقرئ بالرَّفعِ على الابتداءِ أي قدَّرنا له {مَنَازِلَ} وقيل: قدرنا مسيرَه منازلَ وقيل: قدرنَاهُ ذا منازلَ وهي ثمانيةٌ وعشرون السرطانِ البَطينُ الثُّريَّا الدَّبرانِ الهقعة الهَنْعَةُ الذِّراعُ النَّثرةُ الطِّرفُ الجَبهةُ الزَّبرةُ الصِّرفةُ العَوَا السِّماكُ الغفر الزباني الإكليلُ القَلبُ الشَّولةُ النَّعائمُ البلدةُ سعدُ الذَّابحُ سعدُ بَلْع سَعدُ السُّعود سَعدُ الأخبيةِ فرغ الدَّلو المقدَّم فرغ الدَّلوِ المؤخرَّ الرَّشا وهو بطنُ الحوتِ ينزل كلَّ ليلةٍ في واحدٍ منها لا يتخطَّاها ولا يتقاصرُ عنها فإذا كان في آخرِ منازلِه وهو الذي يكون قبيلَ الاجتماع دقَّ واستقوسَ {حتى عَادَ كالعرجون} كالشِّمراخِ المُعوجِ فعلون من الانعراجِ وهو الاعوجاجُ وقرئ: {كالعَرجونَ} وهما لغتانِ كالبُزيَون والبِزيونِ. {القديم} العَتيقِ وقيل: وهو ما مرَّ عليه حولٌ فصاعداً {لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا} أي يصحُّ ويتسهَّلُ {أَن تدْرِكَ القمر} في سرعةِ السَّيرِ فإنَّ ذلكَ يخلُّ بتكون النَّباتِ وتعيُّشِ الحيوانِ أو في الآثارِ والمنافعِ أو في المكانِ بأن تنزلَ في منزلِه أو في سلطانه فتطمس نورَه. وإيلاءُ حرفِ النَّفي الشَّمسَ للدِّلالةِ على أنَّها مسخَّرةٌ لا بتيسر لها إلا ما قُدرِّ لها {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} أي يسبقُه فيفوتُه ولكنْ يعاقُبه وقيل: المرادُ بهما آيتاهُما النيِّرانِ وبالسبقِ سبقُ القمرِ إلى سُلطانِ الشَّمسِ فيكون عكساً للأوَّلِ، وإيراد السَّبقِ كان الإدراك لأنَّه الملائمُ لسرعةِ سيرهِ {وَكُلٌّ} أي وكلُّهم على أنَّ التَّنوينَ عوضٌ عن المضافِ إليه الذي هو الضَّميرُ العائدُ إلى الشَّمسِ والقمرِ. والجمعُ باعتبارِ التَّكاثرِ العارضِ لهما بتكاثرِ مطالعهما فإنَّ اختلافَ الأحوالِ يُوجب تَعدداً ما في الذَّاتِ أو إلى الكواكبِ فإنَّ ذكرَهما مشعرٌ بها {فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يسيرُون بانبساطٍ وسهولةٍ.
{وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ} أولادَهم الذين يبعثُونهم إلى تجاراتِهم أو صبيانَهم ونساءَهم الذين يستصحبونهم، فإنَّ الذُّريةَ تطلقُ عليهن لا سيَّما مع الاختلاطِ، وتخصيصُهم بالذِّكرِ لما أنَّ استقرارَهم في السُّفنِ أشقُّ واستمساكهم فيها أبدعُ {فِى الفلك المشحون} أي المملوءِ وقيل: هو فُلك نوحٍ عليه السَّلامُ وحملُ ذريَّاتِهم فيها حملُ آبائِهم الأقدمين وفي أصلابِهم هؤلاء وذرياتُهم، وتخصيصُ أعقابِهم بالذَّكرِ دُونَهم لأنه أبلغَ في الامتنانِ وأدخلُ في التَّعجيبِ الذي عليه يدورُ كونُه آيةً.


{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ} ممَّا يماثلُ الفُلكَ {مَا يَرْكَبُونَ} من الإبل فإنها سفائنُ البرِّ أو ممَّا يُماثل ذلك الفُلكَ من السُّفنِ والزَّوارقِ وجعلها مخلوقةً لله تعالى مع كونِها من مصنوعاتِ العبادِ ليس لمجرَّدِ كون صُنعِهم بأقدارِ الله تعالى وإلهامِه بل لمزيدِ اختصاصِ أصلِها بقُدرته تعالى وحكمته حسبما يُعرب عنه قولُه عزَّ وجلَّ: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} والتَّعبيرُ عن مُلابستهم بهذه السُّفنِ بالرُّكوبِ لأنَّها باختيارهم كما أنَّ التَّعبيرَ عن مُلابسة ذُرِّيَّتهم بفُلكِ نوحٍ عليه السَّلامُ بالحَملِ لكونِها بغير شعورٍ منهم واختيارٍ. {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} إلخ من تمامِ الآيةِ فإنَّهم معترفون بمضمونِه كما ينطقُ به قولُه تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} وقرئ: {نُغرِّقهم} بالتَّشديدِ وفي تعليق الإغراقِ بمحض المشيئةِ إشعار بأنَّه قد تكامل ما يُوجب إهلاكَهم من معاصيهم ولم يبقَ آلاَّ تعلُّقُ مشيئته تعالى به أي إنْ نشأْ نغرقهم في اليمِّ مع ما حملناهم فيه من الفُلك فحديثُ خَلْقِ الإبل حينئذٍ كلامٌ جيء به في خلالِ الآيةِ بطريق الاستطرادِ لكمالِ التَّماثلَ بين الإبلِ والفُلكِ فكأنَّها نوعٌ منه أو مع ما يركبون من السُّفنِ والزَّوارقِ {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} أي فلا مُغيثَ لهم يخرجهم من الغَرَق ويدفعه عنهم قبل وقوعِه وقيل: فلا استغاثةَ لهم من قولِهم أتاهم الصَّريخُ {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} أي ينجُّون منه بعد وقوعِه وقوله تعالى {إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا وَمَتَاعاً} استثناء مفرَّغٌ من أعمِّ العللِ الشَّاملةِ للباعث المتقدِّمِ والغاية المتأخِّرةِ أي لا يُغاثون ولا يُنقذون لشيءٍ من الأشياءِ إلا لرحمةٍ عظيمةٍ من قبلنا داعيةٍ إلى الإغاثةِ والانقاذِ وتمتيع بالحياة مترتِّب عليهما ويجوزُ أنْ يُرادَ بالرَّحمةِ ما يُقارن التَّمتيعَ من الرَّحمةِ الدُّنيويَّةِ فيكون كلاهما غايةً للإغاثةِ والانقاذِ أي لنوعٍ من الرَّحمةِ وتمتع {إلى حِينٍ} أي إلى زمانٍ قُدِّر فيه آجالُهم كما قيل:
ولم أسلمْ لكي أبقَى ولكن *** سَلِمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا} بيانٌ لإعراضِهم عن الآياتِ التَّنزيليةِ بعد بيانِ إعراضِهم عن الآياتِ الآفاقيةِ التي كانُوا يشاهدونَها وعدم تأمُّلِهم فيها أيْ إذَا قيل لهم بطريقِ الإنذارِ بما نزل من الآيات أو بغيره اتَّقوا {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} من الآفاتِ والنَّوازلِ فإنَّها محيطة بكم أو ما يصيبكم من المكاره مِن حيثُ تحتسبون ومن حيثُ لا تحتسبون أو من الوقائع النَّازلةِ على الأُمم الخالية قبلكم والعذاب المعدِّ لكم في الآخرة أو من نوازل السَّماءِ ونوائب الأرض أو من عذاب الدُّنيا وعذاب الآخرةِ أو ما تقدَّم من الذُّنوبِ وما تأخَّر. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} إمَّا حال من واوِ واتَّقوا أو غايةٌ له أي راجين أنْ تُرحموا أو كي تُرحموا فتنجُوا من ذلك لما عرفتُم أنَّ مناط النَّجاةِ ليس إلاَّ رحمةَ الله تعالى. وجوابُ إذا محذوف ثقةً بانفهامِه من قوله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8